expr:class='"loading" + data:blog.mobileClass'>

الثلاثاء، 14 يناير 2014

المراية 1

دخلت صالة الحمام مستعجلة أمام العامل الذي كان يحمل العلبة الكرتون الكبيرة. شكرته بيعطيك العافية سريعة ثم بدأت تشير له الى المكان حيث سيثبت المرآة الواسعة ذات الكادر الخشب المدهون بفضي لمّاع و التي اهدرت ساعات و ساعات في مناقشات مع بناتها و زوجها قبل أخذ القرار الصعب بشراءها.
كان العامل ثرثاراً و لم يفتأ يذكر أعماله و نجاحاته كمعظم أؤلئك الذين كتب عليهم القدر التنقل بين الوجوه و الايادي لئلا يجدوا انفسهم يوما تحت الاقدام. هذا التنقل الذي كان يستدعي دوماً شرح كامل للسيرة الذاتية لتأكيد الخبرة و المعلمية و خصوصاً تحليل الأجر المطلوب.
أم سعيد كانت ترد عليه بلباقة بدون احاديث زائدة وهي تراقبه بحرص.
جاء وقت الحساب فدعته للنزول للطابق الارضي ليشرب كاسة شاي مع ابو سعيد زوجها و يتحاسبا. لم يكن الامر أكثر من محاولات معروفة مسبقاً لمداعبة شعور الايثار لدى هذا البسيط أملاً في تقليل أجرة يده.
كان ابو سعيد ابن بلد في هذه الامور و لولا الكسر في عظمة الحوض بسبب سقوطه الحر من على الشجرة التي امام المنزل في محاولة لقطعها لكان ركّب بنفسه المرآة إضافة لتغيير حوض المجلى القديم الذي أصبح اليوم على رأس الاولويات.
كانت صفاء تحب هذا البيت كثيراً رغم انهم لم يقضوا فيه سوى سبع سنوات. دخلوه عائلة كبيرة تحتضن ابناء في الثانوية لكن سرعان ما تزوجت سوسن ثم سافر سعيد ليعمل في فانكوفر في غرب كندا أما هناء الصغيرة فهي تسكن وسط المدينة في بيت صغير مع فتاتين عرب مثلها لتقليل الوقت الثمين الذي كان يضيع عليها كل يوم في المواصلات بين فابرفيل حيث يسكنون اليوم و بين الجامعة حيث تدرس طب اسنان.
بعد أن ذهب العامل وقد عمل لهم خصم 20 دولار متأملاً بأن يعتمدوا عليه في كل أعمال التصليح القادمة, قامت أم سعيد لتصعد  نحو صالة الحمام الكبيرة حيث ثبتوا المرآة الجديدة لتعاين تجانس الوان الرخام الابيض المشوب بعروق بنية متدرجة - و الذي تركع عليه ساعة كاملة و هي تفركه بفرشاة أسنان قديمة - مع خشب موبيليا الحمام البني العتيق و صنابيرالماء الستالس الحديثة.
- ما صارلهن سنتين, عللت ام سعيد في نفسها.
هم لا يستعملون هذا الحمام الواسع بل يقومون باستعمال الحمام الصغير في الطابق الاول كعادة كل أؤلئك الذين يربطون وجودهم بالاشياء التي يملكونها و المحافظة عليها حتى تكاد الاشياء تملكهم.

لم تلحظ التغيير إلا في اليوم التالي عندما دخلت صباحاً صالة الحمام و معها السللير و هي تحدث سوسن عن شكوكها ان يكون اللون الفضي في اطار المرآة الخشبي أكثر عتمة اللون الفضي الستالس لصنبور الماء و كعادتها بدأت الهلاوس تداهمها عن الفضيحة التي ستحصل لو اكتشف احدهم ذلك.
و بينما تتحدث وقع نظرها على خيالها في المرآة فبقيت ثابتة لحظات قبل أن تخرج مسرعة عندما نادى عليها زوجها.

اليوم الذي تلاه و بعد أن حظرت القهوة لأخيها ليشربها مع ابو سعيد و هما يتابعان الاخبار على الفضائية, صعدت الطابق الثاني و دخلت تنظر في المرآة من جديد. و هكذا تكررت زيارتها لخيالها في المرآة الواسعة البديعة. كانت تقترب و تبتعد و تنظر من زوايا عدة المرأة الواقفة مقابلها في ذلك اللوح الزجاجي. سواء أكان ضوء نهار شهر جانفييه خافتاً كئيباً او قوياً حارقاً كانت الصورة تبقى ذاتها لوجه ناعم بدون تجاعيد و رقبة خالية من الاخاديد و عينين متيقضتين لماعتين. لابد ان تتصل بأبنة حماها منيرة و تخبرها عن فعالية الكريم الذي اشترياه من الصيدلية.
اليوم مثلاً أخذت حقيبتها القماشية الصغيرة حيث تحتفظ بكريمات و أدوات مكياج بعضها قديم نحو الحمام و بدأت ترسم بقلم كحل قديم حدود عينيها قبل أن ينادي عليها زوجها لئلا يتأخرا عن موعده في المشفى.عندما عادا كان أبو سعيد يعاتبها لأنهما ضيعا الوقت في المرور على محلات الاميرة للتبضع. هو لم يكن ليتضايق من نشاط كهذا خصوصاً بعد تقاعده المبكر بسبب كسر الحوض لقد كان التبضع في المحلات العربية فائدة كبيرة سواء لانتهاز عروض الرخصة او لشراء جرنال الرسالة او  لفتح أحاديث جانبية مع بعض الزبائن. لكنه اليوم كان يريد العودة سريعاً لمتابعة لقاء على الجزيرة.
- كأنو تتقصدي نتأخر, ما كان تخلصي و تخلينا نرجع ع البيت.
و هكذا كانت ام سعيد تنهض بهمّة لعملها كل يوم قبل ان تصعد لفوق و تضع الماكياج ثم تقترح عليه الخروج لشراء حاجيات او المرور على هناء في شقتها الصغيرة لمساعدتها او الاتجاه نحو بيوت الاقارب.
لقد تغيرت كما اتهمها زوجها يوماً. نعم قالت لنفسها و هي تناظر خيالها في المرآة. بالطبع لقد تغيرت فقد فقدت على الاقل كيلوين من خصرها الذي كادت تنسى وجوده. سنوات الخمسين العتيقة هربت من محياها و توهجت خدودها بحمرة الحياة. حتى أرنبة أنفها اصبحت لماعة و شفتاها النحيلتان بدتا أكثر امتلاءاً.
و كأن الدم وجد أخيراً طريقه في عروق جثة قديمة مهملة, شعرت بشبابها يعود لها بعد كل سنوات الهروب. اختفت ألام مفاصلها و اصطبغت حياتها بشوق كبير عارم لم تدرك سببه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق