expr:class='"loading" + data:blog.mobileClass'>

الجمعة، 1 يناير 2021

في أثر حاتم

 في صباح 29 ديسمبر كانون الأول عندما قرأت تويتة ترثيه, تركت الهاتف من يدي للحظات و عدت لموضعي في السرير في محاولة غير مجدية للاستيقاظ من الكابوس. عادت بي الذاكرة لأول مرة أسمع عنه، دوره في المسلسل المهم دائرة النار 1988 حيث جسد شخصية ثانوية تماماُ لصبي ورشة في حي قديم يقع في حب فتاة جامعية "واحة الراهب" ويحاول التقرب منها ثم ينقلب لمضايقتها قبل أن يشارك في فضحها. وبالرغم من الكاستينج الواسع و الأسماء المهمة حيث جمع المخرج هيثم حقي ممثلين من أجيال و مدارس مختلفة فمن طلحت حمدي وهاني السعدي أو سمر سامي و سامية الجزائري. كان المسلسل بمثابة شهادة تقدير لجيل المخضرمين أؤلئك الذين جاؤوا بعد الجيل المؤسس و بالرغم من ضعف الأمكانيات ومنافسة الدراما المصرية بكل زخمها وقوتها، استطاعوا باجتهادهم وعملهم الدؤوب تثبيت نجوميتهم عند الجمهور المحلي وخلق اللبنة التي ساهمت فيما بعد في نجاح وشهرة الدراما السورية. وبين هؤلاء العمالقة استطاع الشاب الصغير الذي تعطيه ملامحه عمراً أصغر بكثير من سنه الحقيقي، استطاع أن يصنع لنفسه اسماً. حاتم علي الممثل الشاب. 

فيما بعد سنتساءل حول هويته الفنية. 

ابحث عن تفاصيل عنه في محركات البحث لكن المصادر فقيرة و قليلة، غير مؤرخة في الغالب. اكتشف أنه ليس من جيلي بل هو أكبر. اتفاجأ فهو بالنسبة لي ولكثير من السوريين لا يزال الوجه الشاب المبدع. متى أصبح حاتم خمسينياً؟

على اليوتيوب حلقات لمسلسل هوى الشروق و هو فلم ينتمي لتصنيف المسلسلات البدوية التي كانت تنتجها بغزارة الشركة الأردنية للانتاج التلفزيوني الإذاعي و السينمائي في الثمانينات و التسعينات من القرن المنصرم. أنظر لوجه حاتم فأقرر أنه ليس عمله الأول إذ يبدو الممثل بلحيته الكثيفة أكبر بكثير من بداياته. 

كرهت حاتم في مسلسل دائرة النار فقد كنت في عمر لا يسمح له، بالرغم من الوعي بعمل الممثل، أن يوقف أحكامه العاطفية وإن ساعدتني شدة هذه الأحكام العاطفية على فهم قدرات الممثل العالية التي كان عليها حاتم. في ذلك الزمن وبالرغم من قلة الاختيارات المتاحة في المحطات التلفزيونية و ضآلة ساعات البث كان بعد الأعمال المصرية المتربعة على قمة المتابعة، نتردد بين باكورة الكوميدية الكويتية, الواقعية العراقية، المسلسلات البدوية و تلك الشامية. فبالرغم من محاولات الدراما السورية العمل على مواضيع عدة إلا أن أغلب الأعمال التي تحصل على تمويل التلفزيون السوري هي تلك التي تشكل الشام، العاصمة دمشق كما يسميها السوريين، بطبقتها الوسطى وتحولاتهم  مركز مواضيعها حيث يتحدث الشوام بلهجة الشام عن معضلاتهم الحياتية من تغيير للقيم و الأخلاق العامة و ثورة الأبناء على أباءهم فيما عدا المواضيع المعتادة عن الحب و الثروة. فيما بعد سنعلم أن معظم الممثلين و العاملين في المسلسلات الشامية لم يكونوا شاميين. كانوا مثلنا من الجزيرة أو دير الزور أو حلب أو ابناء الداخل حمص و حماة أو ابناء الساحل اللاذقية و طرطوس و الجنوب من درعا و سويدا. لم نكن نعلم أن ياسين بقوش فلسطيني أو كما علمته اليوم أن حاتم كان جولاني. 

كانت سوريا مملكة صمت كما وصفها رياض الترك فحتى جدالات الأوساط الفنية لا تخرج عن خطوط محددة كما أنه لم يكن هناك مجلات أو صحف فنية وبرامج التلفزيون الذي سيطرت عليه الأجهزة الأمنية قد تركها الجمهور. 

في تلك المملكة كانت تحدث بعض التغييرات في محاولة لصد العجز المالي والتدهور فسمح لشركات الانتاج الخاصة بدخول قطاع الانتاج التلفزيوني مع بدء الثمانينات و بدا أن توصيف مسلسل شامي لم يعد يعني مسلسل غير شعبي وحاول الفنانون السوريون استغلال ذلك بقدر المستطاع لتطوير الأعمال والمواضيع فمن مسلسل هجرة القلوب إلى القلوب 1990 الذي يتحدث عن سيرة قرية وأهلها منذ بداية القرن الفائت مروراً بالاحتلال الفرنسي، ثم الفانتازيا التاريخية كالجوارح 1995 حتى خان الحرير 1996 بدا واضحاً أن الدراما السورية لم تعد مجرد مسلسلات شامية وأنها حصلت على إعجاب و متابعة جمهور أرضها و البلدان المحيطة و أمامها الآن التحدي الأكبر: منافسة الدراما المصرية على أرضها.  

 كنت قد تركت سوريا بمسيرة قائدها و قصص أهلها و مسلسلاتهم وفي وقت كانت الدراما المصرية تعاني من أزمة، ألقى بمسؤوليتها مباشرة على إلهام شاهين إذ كان لا يخلو رمضان من بطولتها لمسلسلات خائبة، تردد المقالات في مواقع الصحافة الألكترونية القليلة عن مسلسل مصري تاريخي ناجح. بطولة ممثل سوري ناشئ وإخراج المخرج الناجح حاتم علي. أول ما بدر لذهني هو الهوية الفنية لحاتم. هل كان ذلك الشاب الموهوب مخرجاً يعمل في التمثيل في أوقات فراغه؟ أم أنه ممثل انتقل للإخراج؟ وإن كان كذلك فمتى وكيف؟ كيف أصبح في أقل من عقدين مخرجاً لامعاً له جمهوره الذي يتابعه مهما ذهب في تجارب مختلفة كمسلسله الأخير 

تعرف المجتمع العربي على المخرج حاتم علي من خلال أعمال درامية و تاريخية مدهشة سحبت احتكار رواية التاريخ من مكاتب التلفزيون و موظفي الرقابة فلا رواية رسمية معروفة و معمول بها بل هناك رؤى تتصادم تتقابل أو تتوازى و تقدم في كل مرة وجهاً لما حدث ولما يمكن أن يحدث. إلا أن للسوريين قصة مختلفة معه بدأت مع المسلسل الجميل الفصول الأربعة 1999، مسلسل يروي بشكل درامي اجتماعي شاركت كتابة الحلقات كل من دلع الرحبي، أرملة حاتم علي، و ريم حنا. ورغم أن المسلسل يروي القصص اليومية لعائلة سورية شامية إلا أن أجواء الألفة و التركيز في التفاصيل الصغيرة كما مواضيع الحلقات جعلت منه مسلسل culte يكاد لا يضاهيه في مكانته مسلسل آخر. 

عندما كنت أشرح لأصدقائي المصريين عن سبب حبنا لمصر كنت أستشهد بالمسلسل إذ يتزين حائط صالون العائلة ومركز أكثر المشاهد بصور نجمات الفن المصري الأبيض والأسود كما أن هناك حلقة خاصة عن صدمة خبر وفاة سعاد حسني.

منذ شهر وجدت حسابه على الفيسبوك و علمت أنه انتقل لمصر وكم سررت كغيري الكثيرين بقبوله لصدقاتنا كما يسعد مشاهد بتحية نجمه له من على المسرح فيرقص قلبه ويشعر بالفخر. اليوم أبحث عن لقاءات له أو مقابلات و لم أحظ حتى الساعة بشيء. هل كان يضن باللقاءات و المقابلات أم أن البرامج و الصحفيين كانوا يظنونه باقياً لسنوات و أن فرصة الحديث معه لاتزال قائمة؟  ذهب الجميل الموهوب بصمت. 

تبدو جنازته في دمشق غريبة بقدر رحيله. الناس  مكسورة الأرواح تحارب ضد الإنهيار الكامل. كانت السنة الأخيرة صعبة بشكل خاص على الطبقة المحمية في مناطق النظام بعد أن اشتعلت السنوات السابقة بحياة باقي السوريين. انهيار الليرة وأزمة المواد التموينية طال الجميع حتى نجوم الفن السوريين المؤيدين للنظام. وفاة أحد أهم مبدعي الدراما السورية في هذا الوقت يشكل صدمة لمن لازال يقاوم من الفنانين ومبدعي الدراما السورية. الفنانون الحاضرون بصفتهم الشخصية من كل الأطياف واجمون صامتون أو منهارون بالبكاء. لا أحد يعلق فما حدث أكبر من أن يستوعبه أحد. فحتى الشاب الذي صعد على الأكتاف يردد أهازيج العراضة بعد خروج الجثمان من جامع الحسن في حيّ أبو رمانة لم يفلح في الصمود أكثر من دقيقة. 

في سوريا كحال كل المجتمعات الأبوية يكتسب الزواج رمزية وأهمية خاصة إذ أنه أهم النجاح والشهرة و المال. الزواج علامة مهمة في الحياة تحضّر له العائلة وتحلم بالإحتفال به "نفرح فيكي عروس أو نشوفك عريس" هي أجمل الأمنيات التي تعبر عن الحب و التودد لذا فعند وفاة صديقى العازبة وضعت جدتها على جثمانها ثوب عروس حتى لا يكون موتها حائلاً بينهم وبين فرصة التعبير عن حبهم لها. في جنازة ابن عائلة مشهورة في مدينتي خرج أصدقاءه يهتفون له أهزوجة الزواج " الله سواه، سواه زين، مكحول العين, واللي يعادينا، الله عليه". تنطلق الزغاريد لوهنة في جنازة المبدع وكأنها تقول له "ذهبت مبكراً، لم تبق معنا الوقت الذي يسمح لنا بالفرح بك بما يكفي، لازال فرحنا منقوص، لم نصفق لك بما يكفي. كنا لانزال ننتظر منك الكثير يا أيها الشاب".

سنة جديدة

 تعال و انظر هنا حيث الروح تنتظرك, ها قد ظهرت وردة جوري حمراء كوجنتيّ, تعال فأنا أحبك