expr:class='"loading" + data:blog.mobileClass'>

الأربعاء، 24 يونيو 2015

مباراة

" كنتِ لازم تعرفي ان الموضوع مش جد من طريقة كلامه بالتلفون.  نبرة صوته كانت بتشي بإحراج بالغ."
كانت تحدث نفسها و هي تتمشي بين موائد الكوفي شوب لتصل لأكثرها عزلة. لم يكن موجوداً بحسب الموعد الذي اتفقا عليه. 

" مش لازم اتأخر اكتر من كده. عيب. "
كان يحث الخطا في المجمع الاستهلاكي الواسع حتى أنه كان قد بدأ يلهث عندما دلف للكوفي شوب و لمحها بعيداً تتأهب للجلوس و قد شدت بيسراها على طرف جاكتها القصير بقماشه المطبوع بورود زهرية. 

" خسارة ما لحقتش اقارن طولها و اشوف جسمها "
ابطأ من حركته و بحركة غير واعية رفع بنطاله ليعدله. 

" اوه الارشيدوق وصل" 
قالتها لنفسها حالما رفعت رأسها و شاهدته يقترب بخطواته السلسة و هو يوظب نظاراته الشمسية في جيبه و ينظر نحوها مباشرة بثقة و كياسة.  كانت هي من اختار الموعد الباكر. فلا خشية من ان يسمع جيران الطاولة الاحاديث الخاصة و لا رهاب ان يستدل عليك احد الاقارب و الاصدقاء الكثر و يفسد عليك الجلسة او ينشر اخبارا غير حقيقية مملؤوة بالظنون و التنبؤات. 

" هي مغرورة.  باين عليها كدا.  و تلاقيها بتدور على حكاية تحكيها لصاحباتها او تنشرها بصفحة غرائب العرسان. اما نشوف يا حيلتها"
مد يده يسلم عليها فبدت للحظة مرتبكة و كأنها لم تتوقع ذلك قبل ان تمد يدها مصافحة بثقة و ابتسامة رسمية سريعة. 

" ايه ده؟ ده بيسلم.. "
ثم و بعد ان استأذنها بالجلوس
" و مؤدب كمان؟ امال اتأخرت ليه يا جنتلمان؟ "
هزت رأسها بخفة متفهمة  لاعتذاره عن التأخير قبل ان تنتبه لتموضع ذراعيها على الطاولة و الذي قد يوحي بأريحية كبيرة تجاهه فسحبتهم بهدوء لتثبّت تهدلاً متخيلاً لحجابها ثم اعتدلت مبتعدة عن الطاولة و قد جذبت ظهرها للخلف مستندة على الكرسي و شبكت يديها في حجرها. 

" مش مغرورة لأ.  شخصيتها قوية.  او ذكية.... بس انفها مش حلو.  كان لازم تعمله عملية. "
رفع ذقنه عاليا و هو يدعوها لشرب شئ و منع بصعوبة نفسه من تكرار الجملة اذ لم يتوقع انها توافق بسرعة و تطلب بثقة شيئا غاليا.  في لقاءاته القليلة مع فتيات بهدف التعارف كان عليه ان يلح و يلح لدرجة انه اخر مرة و بكل شر طلب لنفسه فقط لتذوب الفتاة الخجولة الجالسة مقابله مرارةً و إحساساً  بالخيبة. 

" ايوة يا بيبي انا اموت في البعزقة و بقولك ايه ده انا كمان هاشرب يا دوب شفة و بعدين اقول انه ما عجبنيش... جاي حضرتك تضحك عليا؟ لو مش عاوز تتنيل تتعرف او تتجوز بلاش تستهزأ ببنات الناس"
كان وجهها يزداد حرارة و يديها رجفة و غضبها احتقانا و استجمعت كل قواها لتمنع نفسها من تهزيقه. كان شعورها بأنها وقعت في فخ يزداد مع كل حركة لباقة متصنعة يقوم بها و تزداد إدراكاً انه لم يقبل مقابلتها إلا انصياعاً منه لرغبات خالته، رفيقتها في عضوية مجموعة العمل التطوعي. 

" البنت ديه مش سهلة.  امال عاقلة و لطيفة و روحها حلوة ازاي؟ كده يا خالتو نعمت؟ ده انا كنت حرمت الكلام ده من تحت راس عمايل ماما تقومي تلبسيني بواحدة بايرة و عصبية؟ "
قدم لها الكوكتيل بحركته الرياضية المتناسقة و ابتسامته التي لم تتغير ثم ،و لفتح باب الكلام، بدأ يسألها بتهذيب عن احوالها و شغلها. 

" ايوة.... ابتدينا... الفلوس مش كده؟ شوف يا عم أنا لولا التقاليد اللي بتقول ان الشاب يعزم البنت في أول لقاء كنت دفعتلك ثمن ركنتك و بنزينك كمان... أنا بنت مستقلة و أمي تحلف عليا علشان اقبل منها هدية "
بدأت تستعرض امامه، بأدب و جمل قصيرة تتخللها ابتسامات رقيقة،  دراستها و عملها و تشكره على ثناءه قبل ان تدير دفة الحديث عنه. 

" مش هتاكلي عقلي بشوية الكدب بتاع انجازاتك ده؟  احنا مش في مقابلة شغل... تلاقيكي مفصولة من شغلك و قاعدة في بيتكن تشحتي من اخواتك"
لم يفهم لماذا بدأ حديثه عن طفولته ثم شبابه و عمله. حاول استدراك الخطأ الغريب بجملة كوميدية عن انه مش بيخبي حاجة.  ضحكته كانت اقرب للاستهجان قبل ان يكمل حديثه المنقبض. لكنها ضحكت.  جملته الكوميدية الخفيفة جعلتها تضحك ضحكة خفيفة بدون شياكة لكنها كانت حقيقية.  توقف فجأة و قد بدأ يتفحصها بشكل اكبر و كأنها تنبهت لنظراته عادت بسرعة لجمودها و تمثيلها. 
سألها مباشرة إن كانت ستشرب الكوكتيل أم أن الموضوع بعزقة و خلاص و عندما قفز الشرر لعينيها اللامعتين استدرك و قد مال نحوها ان هناك اختيار ثالث و هو ان تدلقه في وجهه.
عادت تضحك بشكل اكبر هذه المرة و قد اشاحت بوجهها و اخفت فمها بيدها المزينة بخاتم ذهبي صغير وحيد في السبابة. يد طرية ناعمة لم يكن ليصدق انها نفسها اليد التي سلمت عليه قبل قليل بكل ذلك الحزم و الثبات. 

حدثته بوجهها الحقيقي لأول مرة قائلة: « انت فديك الساعة لمن ماتموزيل شيك زيي تدلق عليك كوكتيل متكلف 150 جنيه؟» 
« مش هازعل لو انتي اللي دافعة ثمنه» ردّ عليها بإصرار محموم و كأنه يتمنى فعلاً ان تنفجر في وجهه فتحرقه لكن ردة فعلها كانت اذكى مما توقع. 
« ماشي لو كان الموضوع ده هيقدملك مبرر كافي قدام طنت نعمت لمن تقولها اني مش عجباك» 
كانت تتحدث بثبات و جدية ملفوحة بسخرية قديمة جعلته يندم علي جوابه الغبي غير التكتيكي و يبحث بيأس عن مخرج. 
« أصلي شجاعة و احب مساعدة البائسين» اكملت جملتها و هي تقف بإباء و قد سحبت حقيبتها الصغيرة. 
بقي جالسا و قد اصابه خدر إدراك الخسارة، يحدق بجسدها و يراقب حركتها الخفيفة المدروسة و هي تبتعد خارجة. 

بعد دقائق أدار رأسه عن مدخل الكوفي شوب الفارغ و لملم شتات جلسته:
" رجليها رفيعة "، قال لنفسه محاولا مداراة الفراغ الذي احاط به فجأة ثم سحب كأس الكوكتيل و بدأ يرتشفه ملكوماً.