expr:class='"loading" + data:blog.mobileClass'>

الأحد، 1 مارس 2015

و حياة اللي عاش 1

(المشهد قارب خشبي واسع بعض الشئ من دون شراع و في مقدمته رجل بثوب اسود فضفاض يغطيه من رأسه حتى قدميه. الرجل يمسك بدفة القارب التي هي عادة تكون في الطرف الخلفي بس الموضوع هون مختلف شوي. القارب يتقدم في مياه داكنة و ظلام دامس. ازا خيالك ما ساعدك فيك تشوف فلم وودي آلن)
كانت منيرة و هي سيدة في اواخر العقد السبعين من عمرها قد جلست بفستانها التفتة البيج المذيل بدانتيل ساتان مهذب في اخر القارب منزوية و قد بانت على وجهها علامات الاسى. لم يكن جبرا ليقترب منها لولا انه تيمن فيها معرفة لغته ذلك ان باقي الركاب كانوا بسحن غريبة.
اقترب منها و عندما وجدها لم تلحظه تلويحة يده قرر ان يجلس على كومة الحبال مقابلها و مد يده كعادته نحو جيب جاكيته الكحلي الجديد ليسحب باكيته الدخان لكن الجيب كان خالي ككل جيوبه.
اخيرا و بعد نصف ساعة سألها و قد تأكد له انها تتحدث العربية مثله:
- من وين يا خالة؟
فجأة التفتت نحوه بهدوء لكن بريبة و كأنها تنتبه لوجوده لأول مرة ثم تفحصته جيدا قبل ان تقرر الاجابة:
- من حلب..
و عندما وجدته يهز رأسه ايجابا اكملت, بس اصلنا من ميردين
- أه, ماردين قال جبرا, ايوه ايوه عرفتها سمعان فيها, اهلا و سهلا انا من سيدني باستراليا , قالها و هو يشير بيده بعيدا نحو الخلف و كأنه سيدني تقع في مقدمة القارب, بس ولدان بزحلة و اهلي من الجزيرة..
- اهلا, هزت منيرة برأسها و قد اختفى الارتياب من على وجهها ...
و هكذا وببطء و صبر اخذ جبرا يحدثها عن عمله قبلا و حياته و اسرته و اولاده و هي ترد باقتضاب لكن بود ...
و بعد فترة طويلة من الصمت و على اثر حركة ضحكة مفاجئة من الطرف الاخر من القارب حيث كان يوجد طفل اشقر بولوني لم يتعدى العاشرة من عمره و هو يتابع حركات ايدي رجل اسود اربعيني بقدم واحدة و ملابس مهترئة من ساحل العاج, ضحكة جعلت منيرة تتذكر شيئا ما من ماضيها في الحياة و تخرج زفرة عميقة و تقول:
- طيب نحنا و عمرنا خلص و هاي حكمة الله بس هالولد ؟ مو حرام يموت صغير؟
- ايييه, قال جبرا صافنا في وجه الطفل, و الله يمكن لو انا متت من عمر العشر سنين كنت رح كون مبسوط اكتر, عيشة كلها نكد بنكد الله وكليك...
- تعرف؟ قالت منيرة فجأة و قد عادت لها شهية غير معروفة للكلام, تعرف اني طول عمري بسمع الكلمة و ما كنت اغلط بحدا و بوجب الناس و بعمل دايما المنيح؟ بس هدول الناس ولاد كلب و ما بيستاهلوا..
اغمض جبرا عينيه نصف اغماضة محاولا فهم الفكرة من كل ما تقوله و كاد يسألها لولا انه آثر الصمت فأكملت كما كان يرجو..
- لمن اتجوزت كنت اصغر سلفاتي و اخدوني للغربة لبلد غير البلد اللي فيها اهلي , للحسكة, قالت له موضحة و كأنه يعرف ما هي الحسكة, و كنت مدللة ببيت اهلي يا دوب خمستاش سنة و امي ما تخليني اعمل شي, ببيت حماي لمن كنت عروس كنت قوم و اشتغل و كل شي متل كل هالناس لانه خلص بيت الاحما مو متل بيت الاهل..
هز جبرا رأسه موافقا
- بيوم اجو بيت خاله يعقوب , خال جوزي , لبيت حماي سهرة و قمت خدم عليهن و ما قعدت ابدا و بعدين طلعت ع الحوش لحتى قطع الجبسة..
امام نظرات جبرا المتسائلة شرحت له ان الحوش هو ساحة الدار في البيوت القديمة و انه الجبسة هي البطيخ الاحمر..هنا كانت لهجتها حلبية تماما غير لهجتها و هي تروي القصة
- انا مسكت السكينة الكبيرة و ما كنتو اعرف استحكمها و جيتو اقص الجبسة و انكسرت الجبسة غلط, خفتو حماتي تتمسخر علي قدام خالو يعقوب و مرته و ما عرفتو شلون اتصرف, كانت تحدثه و هي تحرك يديها بشكل مسرحي ممثلة المشهد القديم, قمتواخدتو الجبسة الصغيرة و رحتو كبيتوها في التنور, التنور اللي نخبز فيو الخبز, قالت شارحة لجبرا الذي بدت له القصة و قد حدثت في غياهب التاريخ القديم و لم يكن ليستوعب ان هذه السيدة قد عاصرت الخبز بالتنور الطيني الذي حدثته مرة عنه جدته
- المهم اجت سلفتي الكبيرة انطوانيت و قصت هي جبسة تانية بلا ما تعرف شي...تاني يوم و نحنا قايمين تنخبز شافت حميتي الجبسة المكسورة و عرفت انو انا اللي عملتو هيك و قالتلي تاني مرة لا تكبيها حرام و خليها على طرف ناكلها نحني....
هز جبرا رأسه موافقا و هو لم يفهم حتى الساعة السبب الذي استدعى رواية هذه الحكاية لكن نظرات منيرة المتحفزة و قد عقدت يداها المعرورقتان المنتفختان ذات الجلد الملس على ركبتيها قد نبهه ان الحكاية لم تنتني بعد و هكذا كان فقد اردفت منيرة تكمل و قد بدا على محياها الرقيق الذي كان ذات يوم وجها ناعما يسلب النظرات , بدا عليه الغضب:
- بعد هالعمر كله و بعد كل شي سويته و التوجيب و المحبة و الضيافة و الهدايا , بعد هادا كله تقوم سلفتي سعاد اللي تكبرني و طول عمرها كانت تغار من تقدير ابو جورج و محبته لالي تقوم و في عزاي ما بتحكي الا هالقصة؟
نبرتها المستهجنة نبهت جبرا الي انه عليه ان يقول شيئا فقال هو ايضا مستهجنا:
- العمى؟!!!
- شفت خيو؟ قالتها و قد قلبت للحلبي, شفت اديش في عالم حسودين و عينهن ضيقة؟ ما شافت قصة تحكيها عني و تذكرني فيها بالخير و انا لسه بالتابوت و الناس بيسلموا على ابني جورج و مرتو يعزوني غير هالقصة تحكيها؟ سممت بدني و حياة ربي سممته و انا كنت زعلانة ع الولاد و قلبي قابضني على ميري بنت ابني و هي زعلانة و ما عم تاكل لقمة الرحمة و اجاني صوتها لهاللئيمة....


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق