expr:class='"loading" + data:blog.mobileClass'>

الثلاثاء، 2 يونيو 2020

يا نصيب

أنقر على وسم يوتيوب ثم اختار سريعاً من بين الاقتراحات المعروضة أمامي بتنوع مريب. بين وثائقيات تاريخية فرنسية و سلسلة برنامج تحقيق جنائي أميركي وقراءات تاروت لخبيرات روحيات مختلفات وأفلام عربية قديمة تتنوع القائمة أمامي رغم أنها لا تحوي كل اهتماماتي ذلك أني استعمل وسائط متعددة. 
اختار فلماً مصرياً ثمانينياًفي محاولات لا تنتهي لإشباع جوعي القديم لرؤية كل ما كنت أسمع وأقرأ عنه من أفلام ومشاريع فنية لنجوم كنت أتتبع أخبارهم من غير قصد لإشباع نهمي القديم للقراءة والإطلاع ولو أنه قدر لي النشأة في بيئة فيها ثراء أكثر من ناحية الوسائط والاختيارات لكنت قرأت مجلدات الشعر العربي القديم التي لم أكن ولازلت لا أعلم عنه الكثير. 
كان الفلم بطولة النجم آنذاك محمود ياسين الذي وبالرغم من عدم اهتمام أي امرأة من عائلتي وأنا طفلة به كما كن يفعلن مع فريد الأطرش وعبدالوهاب وأحمد رمزي و غيرهم من نجوم الجيل الأقدم إلا أنهن كن يعترفن بنجوميته ولو أني اليوم أفهم أنها تكرست لأسباب لاتعود لقدراته كممثل بل لتمثيله دوراً واحداٍ طوال مشواره وهو دور الحبيب المثقف بمعايير تلك السنوات من سليل طبقة متوسطة، دراسة جامعية، شخصية كتومة هادئة، احترام وتهذيب في معاملة الإناث فلا نظرات خارجة ولا تصرف جارح. كان عريساً قبل أن يكون ممثلاً وساعده في ذلك إلى جانب طبقة صوته اختياراته الذكية أو ربما هو الحظ ليكون السنّيد لأفلام تدور كلها حول المرأة و همومها آنذاك.المرأة ابنة المجتمع القديم المحافظ التي تطلع لتعيش قدراً آخر يختلف عن قدر أمها وجدتها وإن لم تكن كل ثيم الأفلام تدور حول هذه الفكرة إلا أنها كانت تقدمها وتدافع عنها.
لكن الفلم الذي وقع أمامي كان انعطافاً حاداً للممثل الذي خفت نجمه وتراجع اسمه في سماء الفن بين النجوم الشابة الصاعدة حوله فحاول إعادة نفخ الهواء الساخن في كارييره باللجوء لأقنعة جديدة. 
وكغيره من أفلام تلك السنين بدأ فلم العربجي بكادر واسع لميدان أو شارع واسع في القاهرة وهو ما شجعني على المضي في مشاهدته فالقاهرة كباقي مدن المتوسط في تلك السنين قريبة لقلبي إذ أنها سنوات طفولتي المبكرة وكل ملامحها هي ملامح الخيال والهيام العبثي بدون أحلام أو أفكار أو مشاريع. الخيال لأجل الخيال.
تبدأ مغامرة العربجي في الفلم بشراءه لورقة بريمو والبريمو في مصر هو اليانصيب في سوريا وهو مشاريع الثراء المستحيلة لأبي وجدتي من أبي.
كانت جدتي تداوم على شراء ورقة اليانصيب ما استطاعت كلما توفرت لها بعض النقود وكانت تسميها بييه أي تذكرة بالفرنسية حيث أنها كانت معلمة فرنسية للصفوف الابتدائية. كان كل ذلك زمناً غائراً قديماً اسمع قصائص منه هنا وهناك. لم تكن تشتري تذكرة كاملة فالتذاكر كانت نباع في السوق ولم تكن تنزل للسوق بسبب ثقل قدميها بل كانت تعتمد على ابن الجيران فيشتري تذكرة يقتسمها معها.  وهو ما يؤكد لي أن شراء اليانصيب لم يكن عندها عادة قديمة بل حديثة العهد اكتسبتها لفترة محدودة بين تقلبات عديدة من مرحلة انطفاء العمر. 
كان برنامج اليانصيب موعداً جماهيرياً على التلفزيون السوري بقناته الوحيدة ولازلت اذكر ابتسامة المذيع وهو يكرر الأرقام والأطفال اليافعين وقوفاً قرب دواليب حديدة كبيرة يشدون على طرفها فتور ثم تتوقف تباعاُ تحت ضغط الثقل والاحتكاك لتظهر أرقامٌ مختلفة في فتحة وحيدة في الوجه المقابل للكاميرا في كل منها. وهو، أي الدواليب المعدنية العملاقة وآلية عملها،  ما كان يثير اهتمامي أكثر من أي شيء سواه.
ذات مساء كنت جالسة على الأرض أمام التلفاز لأن الكنبة بعيدة و أمي تشدد علينا لو رفعنا أقدامنا عليها مهما كانت أقدامنا نظيفة أو حتى من دون حذاء فكان الجلوس على الأرض يكتسب حرية كبيرة من الاضطجاع أو القرفصة أو التربّع رغم أن أمي لم تكن ترضى عن ذلك لأننا سنؤذي عيوننا بقريها من جهاز التلفزيون. إذن كنت متربعة على الأرض وبدأ البرنامج فنبهتني جدتي لضرورة متابعة النمر الفائزة ذلك أنها اشترت نصف بييه من ابن فهيمة فلان. ذكرت اسمه بالطبع لكني نسيته الآن رغم تذكري لأسماء كل من أخيه الأكبر وأخواته الفتيات . المهم أنها أعطتني طرف ورقة عليه رقم مكون من ست أو سبع أرقام و أخذت أنا دفتري لتوثيق عملي. فكنت أدون كل نمرة بحسب جائزتها. وفي نهاية البرنامج وبمقارنة سريعة وجدت أن نمرة جدتي قد فازت بمبلغ بسيط وهو ٣٠٠ ليرة سورية لكنه فوز على أية حال. لم تكن جدتي في البيت وقتها بل في زيارة لبيت أحد أقاربها الكثر. فأعلنت الخبر بلا مبالاة لكن مع احترام بالغ لأهمية الأمانة الموكلة لي لأمي التي لم تبد سروراً بل امتعاضاً لقلة المبلغ ولاقتناعها أنه لن يقلل كن همومها هماً. الاهتمام الحقيقي جاء فيما بعد من أخي الكبير الذي كان وقتها في الصفوف الاعدادية فكان بين مشكك و مهتم بهذه الوسيلة المفاجئة لربح النقود. كان عدد مجلة الدولفين الصغير وقتها، التي كان أخي يحرص على شرائها قبل أن يتوقف دخولهال للأراضي السورية، هو ١٥ ليرة للعدد الواحد وهي مجلة ترفيهية تعليمية أوروبية تترجم للعربية في بيروت مما يعني أن ٣٠٠ ليرة كان مبلغاً محترماً ليافع في الإعدادي. أما جدتي فعندما علمت فقد ملأها الأمل. هذا الأمل كان يتجسد في لمعة في العيون الفضية و تنبّه كبير و همّة غير معتادة ساعدتها في الصعود للطابق الثالث لبيت الجارة فهيمة وانتظار ابنها وأخيه الأكبر عند عودتهما من العمل. كان قد أخذت دفتري معها كدليل إثبات بينما لم تطلب أن أرافقها أنا التي كنت شاهدة ملك. بصراحة لم استشغ وقتها طلب الصعود لبيت الخالة فهيمةالذي برغم الترتيب و النظافة الفائقة كان أقرب للقبر منه للبيت برغم تعدد أفراده فقد كانت الخالة فهيمةتحكم بيتها بجبروت مقيت إذ أنه جبروت صامت بوجه متجمد الملامح خفيض الصوت حاد الكلام حديدي الأحرف. كانت الفتيات الثلاث تبدين كدمى مربوطة في أرجاء ديكور لمجلة ملونة. لا أذكر حتى أني سبق وسمعت صوت إحداهن قبل أن تحاول أكبرهن الثورة سنوات فيما بعد.
عاد أبناء فهيمة من ورشتهم وطلبت جدتي رؤية التذكرة التي كان يحتفظ بها الابن الذي نسيت اسمه وتثبت الجميع من فوز النمرة بثلاثمئة ليرة كانت حصة جدتي فيها النصف منها. 
بعد يومين في ساعة الظهر كنت جالسة في الصالون لوحدي لكن على الكنبة هذه المرة فلا إرسال في التلفزيون السوري قبل الساعة الرابعة بعد الظهر ولا راديو فالمسجلة التي كنا نملكها معطلة منذ حاول أخي الصغير تفكيكها لرؤية البشر داخلها. لا كتب ولا مجلات متاحة فقد قرأت كل قصص الأطفال القديمة و كتب القراءة أما أعداد مجلة الدولفين الصغير فقد كان أخي يتحفظ عليها في الخزانة التي كنت أموت كمداً لفتحها. دق الجرش ففتحت ووجدت ابن خالة فهيمة الشاب الصغير يبتسم بحذر ويقدم لس باهتمام حصة جدتي من النقود ثم يصعد سريعاً لبيته. كانت المرة الوحيدة التي أراه حقاً فكان دوماً كأخوته أشباحاً نسمع أسمائهم ونرى ظلالهم وفقط. 
أمسكت النقود وعددتها ثم سلمتها لجدتي حال عودتها التي صرفتها في أقل من أسبوع وعادت تشتري نصف تذاكر يانصيب لتحقيق ثروة أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق