expr:class='"loading" + data:blog.mobileClass'>

الاثنين، 25 مايو 2015

حكاية عائلية

"لن أسمع بعد هذا كل تلك الترهات. كل ذلك الألم المصاحب للخوف من الآتي. لقد ذهبوا بكوابيسهم لتبقى وجوههم معلقة في زوايا الرأس، أتعثر بها و أجفل، فتذهب عني أفكاري و يلازمني الهمّ."

في كافيه "شتورة" الصغير الواقع على شارع الكوت فيرتوه في غرب مدينة مونتريال, اجتمعت نائلة بصديقتها و قريبتها لطيفة و تبادلت السيداتان التي قارب عمرهما الستين أطراف الحديث مع فنجان قهوة تركي، كما يسميه الغربيون متواطئين بذلك في أكبر سرقة تراثية لمجتمعات الشام، قبل ان تبدأ نائلة بمزاولة عملها من تنظيف وتوظيب للمقهى. المقهي كان لابنتها و زوجها قبل ان يبيعه هذا الاخير بسبب مرضه و لتبقى هي تعمل فيه صباحاً في محاولة لكسب القليل من المال وكشرط من شروط الصفقة قبل ان يتطور الامر ليترك لها فارس، صاحب المقهي الجديد، المكان بقذارته لتفهم من ذلك ان بقاءها بعد مضي سنة مرهون بقيامها بأعمال اضافية. 

- ما الذي كان عليّ فعله؟ هاه يا لولو؟ قولي لي بربك؟
- خلصينا من هالقصة.

هكذا كانت لطيفة تنهي الحوار المعتاد قبل ان تبدأ بالتقليب في منشورات الاعلانات التجارية. ركزتا على تلك الخاصة بالمحلات العربية وتناقشتا حول اسعار الفول الاخضر و البازلاء، قدمت لطيفة تقرير أخير عن حالتها الصحية المعقدة ثم تناقشتا سريعاً حول أخر الأخبار.
كانت الساعة تقترب من الثانية عشر ظهراً عندما خرجت لطيفة أخيراً وهي تتكأ على عكازها بيمناها وبيسراها تحمل جزدانها و كيس مملوء بأدويتها التي اشترتها تواً من صيدلية خوري التي تقع في الشارع ذاته. أشعة الشمس القوية رغم برودة الجو تنعش عظامها المتكلسة وتسرقها قليلاً من أشباحها، الصبا الواعد، الزواج والخيبة، الحرب والهروب الكبير لكندا، البنتين المستقلتين عنها ومنها، الرجل الذي ابتعد وهي على مشارف الستين والمال القليل. معاش التقاعد الذي سعت إليه طويلاً يكاد يسد نفقاتها القليلة و ما كانت تحلم به من راحة مستحقة بعد كل الكدح والعمل لم يكن من الراحة بشئ. 
قصّت عليها نائلة هذا الصباح كيف ان طوني ابنها الذي يعيش في فرنسا قد قرر فجأة الانفصال عن زوجته الفرنسية. 
- ليه عمل هيك يا ربي؟! المجنون، ألم تقولي لي انه يعمل في البنك الذي يترأسه ابيها؟
- هأ، قالت نائلة هازئة، حظي و نصيبي، قبل انت تضيف وهي تعض على شفتيها، أهبل.

نعم أهبل, رددت لطيفة في نفسها و هي تعاين انعكاس صورتها على زجاج البناء المقابل. امرأة لا تعرفها هذه التي تحمل عصاها و كيس أدويتها. امرأة معدمة ومتعبة كلاجئي مخيم الشياح. كل تلك الدهون والظهر المنحني والوجه المتعب والشعر الاشيب. التدهوّر الأخير لصحتها جعلها تنسى الإعتناء بنفسها وصبغ شعرها. 
تذكرت طلاقها الذي لم يمض عليه عام.
كيف حبست في أعماق روحها كل ذلك الألم طوال تلك السنين قبل ان يتفجر أخيراً في خضم مشاكل بيع بيت العائلة في الرملة؟!

جاءتها صورة طوني المنبثقة من حديث أمه عنه. هذا الانقلاب المنتظر لرجل بلا أخطاء، عيوب أو لحظات عثرة. ما الذي جعله ينقلب فجأة على مستقبله المرصوف بالعلاقات و النجاحات الشخصية؟ على بيته الجميل في إحدى ضواحي مدينة ليون؟ على زوجته مديرة فرع محلي لشركة الجبنة المشهورة؟ 
و ما الذي جعلها هي بالذات تنتظر هذا الحدث و تتوقعه؟
هل قابل طوني، هو أيضاً، شبحاً ما.  خيال مآتة مركون في احدى خبايا الروح. تعثر به فجأة و تطلع إليه في ضوء تجاربه وحياته و واقعه. هل خاف منه؟ هل حاول الهرب؟ أم اقترب و تلمسه؟
 هل كان فزّاعة قماشية حقاً؟ شيئاً ميتاً؟ ام ان الحياة لا تزال تسري في عروقه؟ أغلب الظن انه لم يكن ميتاً. 

توقفت لطيفة مجدداً على طرف الرصيف تنتظر دروها في المرور. الفتاة التي كانت تسير بمحاذاتها لم تتوقف إلا قليلاً مترددة قبل أن تجتاز الشارع مسرعة نحو الرصيف المقابل مما جعل سائق السيارة البيضاء يتمهل و يرفع يده في الهواء معلناً تبرمه من تصرفها الأخرق.
العالم مقسوم لقسمين: أولئك الذين ينتظرون دورهم وألاخرون. لا، لا يا لولو!. هزّت رأسها معترضة. لا أيتها الختيارة البشعة، العالم مقسوم قسمين: أولئك من لا يترددون، لا يترقبون الآتي، و الأخرون.
تعيشين على الطرف الآخر يا لولو، حيث الأخرون. تؤجلين احلامك حسب الظروف، تهربين من الأخيلة الباهتة في نفسك، و تراقبين بصبرٍ مؤلم مرور الأيام.

 في المقهى كانت نائلة ترد على زبونين مستعجلين عندما قطّبت جبينها فجأة ثم سقطت على الارض فاقدةً الوعي.
لن تعرف أبداً أن طوني ابنها قد قرر إعلان مثليته. لن تشاهد الفيديو الذي أنتوى إرساله لإفراد عائلته شارحاً لهم موقفه. لن تسمع معاتباته لرفضها له، لكتمها لحقيقته، لتلوينها صورته : "بلا جلاقة يا طوني، عظام جدك رح ترجف بقبره من هالسيرة". 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق