expr:class='"loading" + data:blog.mobileClass'>

الجمعة، 6 يونيو 2014

ما بيهمّها

أسرعت من خطاها و هي تمشي بمحاذاة الحائط. في الاونة الاخيرة أصبحت مجرد فكرة الخروج للشارع ترعب العائلة و لولا حاجتها لبعض اللبن و البيض الضروري لما خرجت اليوم. اليوم بالذات حيث سمعت ان قناصة انتشروا في حي غويران شرقي المدينة و رغم انها في حي بعيد تماماً لكن المخاوف من ان ينتشر قناصة اخرون في كل أحياء الحسكة كان ينزع من عقلها اي قدرة على التحكيم.
كانت قد وصلت أخيرا شارع بيتها عندما توقفت فجأة تنظر أمامها بذهول
الحركة حولها كانت عادية, نعم أقل بكثير مما كانت عليه قبل ستة أشهر و أقل بأكثر مما كانت عليه قبل سنة و نصف...لكن الحركة كانت موجودة مع متغيرات اعتادوا عليها جميعا لدرجة انهم نسيوها تماما.
كانت و هي تسرع خطاها قبل وصولها الشارع قد بدأت في تدريب عقلي اعتادته وقت الاضطراب. كانت قد بدأت تردد في عقلها جمل صغيرة سريعة لتحافظ على رباطة جأشها:
- انشالله ما بيصير الا كل خير, يا مريم العدرا يا يسوع استرنا و احمينا, لا تخافي و امشي الرب معك, بحياتي ما ضرّيت غيري و لا اشتهيتله الضرر...و غيرها من تعاويذ, دعوات و كلمات تشجيعية قصيرة.
كان من الجائز و في خضم الفوضى المحتدمة في عقلها بين محاولة التركيز على المشي بأسرع ما يمكن مع الاحتفاظ بالتوازن و المظهر الصارم الي جانب محاولاتها للهرب من عواقب الخوف و الهلع. بين كل هذه الفوضى كان من الجائز ان تخرج هنا وهناك اشياء غريبة لا علاقة لها بما يحدث. قد يحدث و يخرج تسجيل لصوت زوجها المسافر منذ اكثر من عامين و هو يشرح لها أو يبرر على السكايب. امها و هي تهدهد طفلها جوزيف ليرقد أو صورة لابنة الجيران و هي ترمي الزبالة على بلكونهم.
لكن ما جعلها تتوقف هو شئ أخر. كانت تردد جملة تشجيعية : أنا أقوى, أنا ما بيهمني. لتترأى لها صورة فادي و هو يرمقها بتلك النظرة التي طالما توقفت عندها بذهول.
لكن ليس هذا ما جعلها تتوقف عند ناصية الشارع تحت شمس الظهيرة الحارقة. لقد مرت تحت ظل بقالية الناصرة و التي تمتد الي جانبها شجرة التوت الفتية. رائحة حبات التوت الناضجة المفعوسة على الرصيف, برودة ظل الساتر البلاستيكي للبقالية و شمس الظهيرة الحارقة أعادوها ؟؟ كم؟ سبع سنوات للوراء.
كانوا في كسب, مع الفرقة الكشفية لكنيسة السريان الاورثوذكس, كانوا في مخيم للكوادر الشابة, الاصدقاء, الاقارب, أبونا يوسف (الله يرحمه) ...و مع فادي ...حبيبها ..
فادي ضاوي من كشفية حمص. كانا يلتقيان في المخيمات القليلة او الدورات الرياضية سواء للكنائس او حتى للشبيبة
كانا يتحدثان احيانا على الفيس بوك لكن على الصفحة العامة للمخيم و ليس محادثة خاصة
لكن كانا يتحادثا
كثيراً
كانت تحبه في السر لمدة عامين. هذا ما كانت تظنّه اذ على ما يبدو أن الامر كان و كما علمت فيما بعد معروف للجميع. كانت تحبه من طرف واحد و كانت تشتبه انه مهتم بها.
كان لطيفاً و خجولاً. مثلها.
لم تكن لديها الجرأة لمحاولة التحدث معه بصراحة او لفت نظر خجول..و لا هو ايضاً..
كانا على ما يبدو نكتة الرفاق. هذا ما قالته لها ميسون و هي تضحك ملئ فاهها:
- عيب عليكي, مو أنتي اللي تحكين بالعقل و الحكمة و انو الانسانة الواثقة من نفسها مو يهمها شي؟
ثم بعد هذا التأنيب تقوم بمحاولة شد عزيمة صديقتها:
- روحي و احكي معه و شوفي ايش رح يردّ. ما فيها شي. انتن كبار و ما فيها شي.
- بس هو الشب, هو المفروض يجي يحكي. كانت تعترض ماريا بأسى
- المشكلة انو هو أضرب منكي, كانت ترد ميسون, هو كمان يخاف يحكي معكي تقومين تبهدليو....

أخيراً اتفق بعض الرفاق بالسر بالقيام بحملة لدفع كل من المحبين الخجولين دفعا للمصارحة
كانا يتكلمان مع بعضهما لكن في قصص عامة , عن المخيم, عن الاطفال, عن الدرس و مشاريع العمل و غيره ...
لا أكثر
هو كان يرهب ان ترفضه و هي تنتظر ان يقول لها شيئاً لطيفاً و شخصياً مثلما كانت بنات عمها يروون لها من قصص التعليق التي كن يتعرضن لها, او كما كانت تشاهد في المسلسلات.... كانت خيالية جدا ..نعم تعترف ...
- بس هو الشب و هو لازم يبلش بالحكي

في تلك الظهيرة في احد ايام المخيم و بعد الانتهاء من المسير و جلسة النقاش انقسموا مجموعات للعب و تمضية الوقت حتى يحين موعد الغذاء. كانت هي و ميسون و جاكلين (من كشفية دمشق) و اولاد عمها سحر و سمير الذي كان برفقة فادي...
لعبوا ورقة ضايعة
كل واحد يكتب سؤال على ورقة ثم يقومون بالاختيار العشوائي...
سحر اختارتها ثم مدت يدها في الكيس النايلون الرطب بسبب حرارة ايدي اللاعبين. سحبت ورقة و قرأت السؤال. لا تتذكر ماريا السؤال. كل ما تتذكره انها قالت بفخر و بابتسامة عريضة على محياها:
- ما بيهمني شي....
هل كان السؤال : ما أكثر كلمة تردديها؟ او ما هو مثلك في الحياة؟ او ماذا يظن بك اصدقاءك؟
لا تتذكر. لكن وقتها ميسون هزّت برأسها موافقة و هي تردد:
- اي و الله ما بيهمها شي...
بدون قصد نظرت تجاه فادي لتندهش من نظراته, بل محياه , بل هيئته كلها.
شئ من الدهشة مع الكثير من ...من ماذا؟
في ظل البقالية الصغيرة و بينما بدأ الناس يختفون من شوارع هذه المدينة القاتلة كانت تحاول ان تفسر لأول مرة ما شاهدته على وجه حبيبها...
تلك اللحظة كانت اللحظة الفاصلة. إنها تدرك ذلك الأن. تدرك التغيير التدريجي و الغريب في سلوكه نحوها. تدرك كلماته و أسئلته الغريبة عن رأيها في الفتيات اللواتي يخرجن عن طوع العائلة. تدرك كلامه عن احترام الكبار و احترام المجتمع. كلام غريب غير مترابط كان يقوله دون ان ينظر نحوها رغم تحفزّها لمناقشته.
كان قد اتخذ قرارا بل حكماً و لم يكن ليسمح لأحد بمناقشته. هذا ما لم تقبل يومها ان تقرّ به. ان تعترف به.
بل أمضت أشهراً في محاولات لفهمه, لفهم خطأها أو هكذا اعتقدت, لفهم ابتعاده عنها, إهماله لها.

لقد فهمت الأن. هذه اللحظة بالذات. ان الامور تغيرت جذريا في تلك الظهيرة, تحت عريشة العنب قرب كنيسة والدتنا العذراء في كسب. تغيرت الامور لأنها قالت انها : لا يهمها شئ...
كم هو غبي
قالت لنفسها. غبي و جاهل. أن يقطع علاقة صداقة او حتى اهتمام لمجرد سماعه كلمة؟
ارتسم السأم و القرف على وجهها المتعب
شهور من الحزن و الاضطراب و اليأس و الاحباط بسبب غبي فاشل لا يملك اي قدرة على التحكيم العقلي. كل ما كانت تظنه وعيا و هدوءا كانا مجرد غباء و عدم قدرة على الفهم و لا على التفكير.
لم يفهم هذا الغبي انها ان كانت تردد ما بيهمني كثيرا فذلك لأنها تهتم لدرجة تجعلها غير قادرة على التحرك. كانت تهتم لدرجة الشلل لذا كانت تردد انها يجب ألا تهتم حتى تستطيع التقدم و المواصلة و العمل و النجاح كما كانت تأمل دوماً
نعم
نظرت أمامها نحو الشارع الفارغ الأن, نظرت بقسوة نحو العالم المخيف و المجنون أمامها.
لابد أنه قد عاش في عائلته او محيطه تجربة مزعجة. كان عقلها فجأة لعادته يحلل بسرعة و بشكل منطقي كل شئ و كل تفصيلة. كما كانت أيام الفتوة.
- نعم, بدأت تهمس لوحدها و هي واقفة تحمل أكياس المؤون , هالغبي كان أكيد عايش تجربة في عيلته او محيطه. فضيحة اخلاقية , ثم تراجعت باستخفاف, او ما يسمّونه فضيحة, بنت طلعت عن طوع العيلة او اتجوزت هريبة...هه ..غبي

شعرت بشئ قديم يعود إليها, شئ ملئ صدرها و انفاسها, شئ من القوة الغريبة ...
ابتسمت ببلاهة و دهشة للشارع الفارغ, الأن, أمامها
لقد توصلت اخيرا لحلّ هذا اللغز القديم. و ياله من لغز.
- هه, قالت باستخفاف


تحركت اخيرا لكن بخطوات ثابتة هادئة باتجاه البناء حيث شقتها.
لن تسمح لهذا العالم المملؤ بالاغبياء ان يحكم عليها و يتجاهلها.
لن تسمح له بأن يهمشها.

لن تخاف
لن تيأس
و لن تهتم

- غبي يا فادي ضاوي, غبي....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق